فصل: الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ عِبَادِهِ وَسُنَنِهِ فِي تَصَرُّفِهِ فِيهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِالْعَدْلِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الظُّلْمِ.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} أَيْ: وَكُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ نَقُصُّ عَلَيْكَ وَنُحَدِّثُكَ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْ تَتَبُّعِهِ وَاسْتِقْصَائِهِ بِهِ، فَإِنَّ مَعْنَى الْقَصِّ فِي الْأَصْلِ تَتَبُّعُ أَثَرِ الشَّيْءِ لِلْإِحَاطَةِ بِهِ، وَمِنْهُ: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} 28: 11 ثُمَّ قِيلَ: قَصَّ خَبَرَهُ إِذَا حَدَّثَ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ الَّذِي اسْتَقْصَاهُ، وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ الْمُهِمُّ، فَهَذِهِ الْكُلِّيَّةُ تَشْمَلُ أَنْوَاعَ الْأَنْبَاءِ الْمُفِيدَةِ مِنْ قِصَصِ الرُّسُلِ الصَّحِيحَةِ فِي صُوَرِهَا الْكَلَامِيَّةِ وَأَسَالِيبِهَا الْبَيَانِيَّةِ، وَأَنْوَاعِ فَوَائِدِهَا الْعِلْمِيَّةِ، وَعِبَرِهَا وَمَوَاعِظِهَا النَّفْسِيَّةِ، دُونَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الْمُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهَا، كَالَّتِي تَرَاهَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ الَّذِي يَعُدُّونَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ وَأَمْثَالِهِ {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} أَيْ: نَقُصُّ مِنْهَا عَلَيْكَ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ، أَيْ نُقَوِّيهِ وَنَجْعَلُهُ رَاسِخًا فِي ثَبَاتِهِ كَالْجَبَلِ فِي الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، وَنَشْرِ الدَّعْوَةِ بِمَا فِي هَذِهِ الْقِصَصِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْأَقْوَامِ، وَمَا قَاسَاهُ رُسُلُهُمْ مِنَ الْإِيذَاءِ فَصَبَرُوا صَبْرَ الْكِرَامِ {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} أَيْ: فِي هَذِهِ السُّورَةِ- وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ- وَقِيلَ: فِي هَذِهِ الْأَنْبَاءِ الْمُقْتَصَّةِ عَلَيْكَ، بَيَانُ الْحَقِّ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ أُولَئِكَ الرُّسُلِ مِنْ أَصْلِ دِينِ اللهِ وَأَرْكَانِهِ، وَهُوَ تَوْحِيدُهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَاتِّقَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَتَرْكِ مَا يُسْخِطُهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالظُّلْمِ وَالْإِجْرَامِ، الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْعَمَلُ الصالح.
{وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} الَّذِينَ يَتَّعِظُونَ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ مِنْ عِقَابِ اللهِ، وَيَتَذَكَّرُونَ مَا فِيهَا مِنْ عَاقِبَةِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، وَنَصْرُهُ تَعَالَى لِمَنْ نَصَرَهُ، وَنَصَرَ رُسُلَهُ، فَالْمُؤْمِنُونَ هُنَا يَشْمَلُ مَنْ كَانُوا آمَنُوا بِالْفِعْلِ، وَالْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرَى آمَنُوا بَعْدُ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إِعْجَازِ الْإِيجَازِ، مَا يُنَاسِبُ إِعْجَازَ تِلْكَ الْقِصَصِ الَّتِي جُمِعَتْ فَوَائِدُهَا بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ.
{وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أَيْ فَبَشِّرْ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّعِظُونَ وَيَتَذَكَّرُونَ، وَقُلْ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَلَا يَتَّعِظُونَ: اعْمَلُوا عَلَى مَا فِي مَكَانَتِكُمْ وَتَمَكُّنِكُمْ وَاسْتِطَاعَتِكُمْ مِنْ مُقَاوَمَةِ الدَّعْوَةِ وَإِيذَاءِ الدَّاعِي وَالْمُسْتَجِيبِينَ لَهُ، وَهَذَا الْأَمْرُ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، أَيْ: فَسَوْفَ تَلْقَوْنَ جَزَاءَ مَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْعِقَابِ وَالْخِذْلَانِ {إِنَّا عَامِلُونَ} عَلَى مَكَانَتِنَا مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَتَنْفِيذِ أَمْرِ اللهِ وَطَاعَتِهِ {وَانْتَظِرُوا} بِنَا مَا تَتَمَنَّوْنَ لَنَا مِنْ انْتِهَاءِ أَمْرِنَا بِالْمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا تَتَحَدَّثُونَ بِهِ، وَمِنْهُ مَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} 52: 30 وَمَا فِي مَعْنَاهُ {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا مِنَ النَّصْرِ وَظُهُورِ هَذَا الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، وَإِتْمَامِ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وَعُقَابِ الْمُعَانِدِينَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ.
{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ: وَلَهُ وَحْدُهُ مَا هُوَ غَائِبٌ عَنْ عِلْمِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ وَعَنْ عِلْمِهِمْ مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، مِمَّا تَنْتَظِرُ مِنْ وَعْدِ اللهِ لَكَ وَوَعِيدِهِ لَهُمْ، وَمِمَّا يَنْتَظِرُونَ مِنْ أَمَانِيِّهِمْ وَأَوْهَامِهِمْ، فَهُوَ الْمَالِكُ لَهُ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ، الْعَالِمُ بِمَا سَيَقَعُ مِنْهُ وَبِوَقْتِهِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ- وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ- فَمَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {يَرْجِعُ} بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ بِضَمِّ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} أَيْ: وَإِذَا كَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ كُلُّ أَمْرٍ، فَاعْبُدْهُ كَمَا أُمِرْتَ بِإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَحْدَهُ مِنْ عِبَادَةٍ شَخْصِيَّةٍ قَاصِرَةٍ عَلَيْكَ، وَمِنْ عِبَادَةٍ مُتَعَدِّيَةِ النَّفْعِ لِغَيْرِكَ، وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ لِيُتِمَّ لَكَ وَعَلَيْكَ مَا وَعَدَكَ بِمَا لَا تَبْلُغُهُ اسْتِطَاعَتُكَ، فَالتَّوَكُّلُ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ الْعِبَادَةِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الْمُسْتَطَاعَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِدُونِهِمَا مِنَ التَّمَنِّي الْكَاذِبِ وَالْآمَالِ الْخَادِعَةِ، كَمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ- وَهِيَ مَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللهِ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ- لَا تَكْمُلُ إِلَّا بِالتَّوَكُّلِ الَّذِي يَكْمُلُ بِهِ التَّوْحِيدُ، قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الْأَمَانِيَّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ- وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ- جَمِيعًا، مَا تَعْمَلُهُ أَنْتَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ عِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ، وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَى مُصَابَرَتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، فَهُوَ يُوَفِّيكُمْ جَزَاءَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا يَعْمَلُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَيْدِ لَكُمْ، وَهَذِهِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَحَفْصٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: {يَعْمَلُونَ} بِالتَّحْتِيَّةِ، وَهِيَ نَصٌّ فِي وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَحْدَهُمْ بِالْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
تَمَّ تَفْسِيرُ السُّورَةِ التَّفْصِيلِيُّ وَيَلِيهِ خُلَاصَتُهُ الْإِجْمَالِيَّةُ:

.الْخُلَاصَةُ الْإِجْمَالِيَّةُ لِسُورَةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ:

وَفِيهَا سِتَّةُ أَبْوَابٍ:
هَذِهِ السُّورَةُ أَشْبَهُ بِسُورَةِ يُونُسَ الَّتِي قَبْلَهَا، فِي أُسْلُوبِهَا وَمَا اشْتَمَلَتْ مِنْ أُصُولِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي خُلَاصَتِهَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَعَاقِبَةِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَحُجَجِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ وَالتَّحَدِّي بِهِ، وَإِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقِصَصِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَسُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ، وَمُنَاسِبَةٌ لَهَا فِي بَرَاعَةِ الْمَطْلَعِ وَالْمَقْطَعِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ- وَلَكِنْ فِي تِلْكَ مِنَ التَّفْصِيلِ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِي التَّوْحِيدِ وَالْقُرْآنِ وَالرِّسَالَةِ مَا أُجْمِلَ فِي هَذِهِ، وَفِي هَذِهِ مِنَ التَّفْصِيلِ فِي قَصَصِ الرُّسُلِ مَا أُجْمِلَ فِي تِلْكَ؛ لِهَذَا نَخْتَصِرُ فِي خُلَاصَتِهَا الْإِجْمَالِيَّةِ فِيمَا عَدَا قَصَصِ الرُّسُلِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَعَاقِبَةِ الْأَقْوَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَنَقُولُ:

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ عِبَادِهِ وَسُنَنِهِ فِي تَصَرُّفِهِ فِيهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِالْعَدْلِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الظُّلْمِ.

وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فَصُولٍ:

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ:

(1) تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ:
هُوَ أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم وَأَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ رُسُلِ اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ-، أَعْنِي عِبَادَةَ اللهِ وَحْدَهُ، وَعَدَمَ عِبَادَةِ شَيْءٍ غَيْرِهِ أَوْ مَعَهُ، كَمَا تَرَاهُ بَعْدَ افْتِتَاحِ السُّورَةِ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ مِنْ خِطَابِهِ تَعَالَى لِقَوْمِهِ وَأُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ} وَمِثْلُهُ أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ نُوحٌ عليه السلام فِي الْآيَةِ (26) مِنْهَا، وَفِي مَعْنَاهُ أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ هُودٌ فِي الْآيَةِ (50) وَصَالِحٌ فِي الْآيَةِ (61) وَشُعَيْبٌ فِي الْآيَةِ: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 84.
وَأَنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ أَوْ يَسْمَعُونَهُ، وَهُمْ يَأْخُذُونَ عَقَائِدَهُمُ الْمَشُوبَةَ بِالْوَثَنِيَّةِ مِنْ تَقَالِيدِ آبَائِهِمُ الْجَاهِلِينَ لَا مِنَ الْقُرْآنِ، يَظُنُّونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِبَادَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عِبَادَةُ الْإِسْلَامِ الْمُنَزَّلَةُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا جَاءَ بِهِ أُولَئِكَ الرُّسُلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ دَعْوَتَهُمْ هَذِهِ هِيَ أَوَّلُ مَا وَجَّهُوهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ، قَبْلَ فَرْضِيَّةِ الْعِبَادَاتِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ، نَهَوْهُمْ بِهَا عَنْ عِبَادَتِهِمُ الْوَثَنِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ وَهِيَ دُعَاءُ غَيْرِ اللهِ لِجَلْبِ النَّفْعِ وَكَشْفِ الضُّرِّ وَالذَّبْحُ لِغَيْرِ اللهِ، وَالنَّذْرُ لِغَيْرِ اللهِ، وَشَدُّ الرِّحَالِ لِتَعْظِيمِ غَيْرِ اللهِ تَعْظِيمًا تَعَبُّدِيًّا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ لِيُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللهِ، وَيَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِغَيْرِ اللهِ مِنْ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتِ خَاصٌّ بِالْأَصْنَامِ كَمَا يَرَوْنَ تَفْسِيرَهَا فِي مِثْلِ الْجَلَالَيْنِ، وَأَنَّ دُعَاءَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ لِدَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ وَالنُّذُورَ وَتَقْرِيبَ الْقَرَابِينِ لَهُمْ لَا يُنَافِي دِينَ اللهِ وَتَوْحِيدَهُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَالصَّوَابُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْلُومُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْقَطْعِيَّةِ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا بَيْنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ حَجَرٍ وَشَجَرٍ وَكَوْكَبٍ، أَوْ بَشَرٍ: وَلِيٍّ أَوْ نَبِيٍّ، أَوْ شَيْطَانٍ أَوْ مَلَكٍ، إِذَا تَوَجَّهَ الْعَبْدُ إِلَيْهَا تَوَجُّهًا تَعَبُّدِيًّا ابْتِغَاءَ نَفْعٍ أَوْ كَشْفِ ضُرٍّ فِي غَيْرِ الْعَادَاتِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي سَخَّرَهَا اللهُ لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَعِبَادَةُ الْمَلَكِ أَوِ النَّبِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ كُفْرٌ كَعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ أَوِ الْوَثَنِ وَالصَّنَمِ بِغَيْرِ فَرْقٍ؛ إِذْ كُلُّ مَا عَدَا اللهَ فَهُوَ عَبْدٌ وَمِلْكٌ لِلَّهِ، لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مَعَ اللهِ وَلَا مِنْ دُونِ اللهِ، وَلَا لِأَجْلِ التَّقْرِيبِ زُلْفَى إِلَى اللهِ، بَلْ يَتَوَجَّهُ فِي كُلِّ مَا سِوَى الْعَادَاتِ الْعَامَّةِ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ كَمَا أَمَرَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا التَّوَجُّهِ بَيْنَ تَسْمِيَتِهِ عِبَادَةً كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ وَهِيَ أَعْلَمُ بِلُغَتِهَا، وَبَيْنَ تَسْمِيَتِهِ تَوَسُّلًا أَوِ اسْتِشْفَاعًا كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ أَسْمَائِهِ.
(2) تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ: الْإِلَهُ: هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّأَلُّهِ وَالْخُشُوعِ الْخَاصِّ بِالْإِيمَانِ بِالسُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ، وَالرَّبُّ: هُوَ الْخَالِقُ الْمُرَبِّي وَالْمُدَبِّرُ لِعِبَادِهِ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ بِذَاتِهِ، وَمُقْتَضَى حِكْمَتُهُ وَنِظَامُ سُنَنِهِ، وَتَسْخِيرُهُ الْأَسْبَابَ لِمَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ، وَكَانَ أَكْثَرُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ الْمُدَبِّرَ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ إِلَيْهَا تَوَسُّلًا إِلَى اللهِ وَطَلَبًا لِلشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ، كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ تُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ؛ إِذِ الْعِبَادَةُ لَا تَصِحُّ وَلَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلرَّبِّ وَحْدَهُ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
تَأَمَّلْ كَيْفَ خَاطَبَ اللهُ أُمَّةَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَفِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ عَقِبَهَا بِاسْتِغْفَارِ رَبِّهِمْ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ لِيُمَتِّعَهُمْ مَتَاعًا حَسَنًا وَيُؤْتِيَ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، وَتَجِدُ مِثْلَ هَذَا فِي قِصَّةِ هُودٍ (52) وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ (90) وَتَأَمَّلْ كَيْفَ بَيَّنَ لِنَبِيِّهِ فِي الْآيَتَيْنِ 6 و7 أَنَّهُ {مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَخْ. وَالْمُرَادُ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصِحُّ وَلَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ كَيْفَ أَخْبَرَ نُوحٌ وَهُوَ أَوَّلُ الرُّسُلِ قَوْمَهُ وَهُمْ أَوَّلُ مَنِ ابْتَدَعَ الشِّرْكَ بِالْغُلُوِّ فِي تَعْظِيمِ الصَّالِحِينَ فِي الْآيَةِ (31) بِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ خَزَائِنُ اللهِ فَيَقْدِرُ عَلَى رِزْقِهِمْ أَوْ نَفْعِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا يَقُولُ إِنَّهُ مَلَكٌ يَتَصَرَّفُ فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ بِإِقْدَارِ اللهِ إِيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فَعَلُوا، إِذْ صَارُوا يَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ وَالْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِ بِزَعْمِهِمْ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهَا عَنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فِي الْآيَةِ (50) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِي مَعْنَاهُمَا مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 188) وَمِنْ سُورَةِ يُونُسَ (10: 49).
ثُمَّ تَأَمَّلْ فِي قِصَّةِ هُودٍ آيَةَ: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} 56 إِلَخْ، وَفِي مَعْنَاهُ تَوَكُّلُ شُعَيْبٍ فِي الْآيَةِ (88) ثُمَّ خَتَمَ السُّورَةَ بِأَمْرِ نَبِيِّنَا- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ- عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 123 فَجَمَعَ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَهِيَ أَعْلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالتَّوَكُّلِ وَهُوَ أَعْلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَنُعَزِّزُ هَذِهِ الشَّوَاهِدَ بِمَا يَأْتِي عَنِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِي الْبَابِ الثَّالِثِ وَلاسيما الْفَصْلُ الثَّالِثُ مِنْهُ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى:

فِي السُّورَةِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَالْأَفْعَالِ: الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الْوَكِيلُ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الْحَفِيظُ الْقَرِيبُ الْمُجِيبُ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ الرَّقِيبُ الْوَدُودُ الْبَصِيرُ، فَمِنْهَا مَا وُصِفَ بِهِ تَعَالَى مُفْرَدًا، وَمَا وُصِفَ بِهِ مُقْتَرِنًا بِغَيْرِهِ، وَمَا اتَّصَلَ بِمُتَعَلِّقِهِ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا أَتَمَّ الْمُنَاسِبَةَ لِمَوْضُوعِهِ فِي مَوْضِعِهِ، مِمَّا يَذَّكَّرُ الْمُتَدَبِّرُ لَهُ بِتَدْبِيرِهِ تَعَالَى لِأُمُورِ عِبَادِهِ، وَيَزِيدُهُ إِيمَانًا بِمَعْرِفَةِ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ، وَكَمَالِهِ فِي صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ لِلْمُحْسِنِينَ، وَتَرْبِيَتِهِ وَعِقَابِهِ لِلْمُجْرِمِينَ وَالظَّالِمِينَ، وَحَسْبُكَ شَاهِدًا عَلَيْهِ فِي نَفْسِكَ تَدَبُّرُ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا تُسِرُّ وَتُعْلِنُ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فَلَا تَغْفُلَنَّ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي أَيُّهَا التَّالِي لِلْقُرْآنِ أَوِ الْمُسْتَمِعُ لَهُ فَيَفُوتُكَ مِنَ الْعِرْفَانِ وَغِذَاءِ الْإِيمَانِ، مَا أَنْتَ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِتَزْكِيَةِ نَفْسِكَ، الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ الْوَسَائِلِ لِفَلَاحِكَ وَسَعَادَتِكَ، فَإِنَّ تَأَمُّلَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ بَيَانِ شُئُونِهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادِ، أَقْوَى تَفْقِيهًا فِي الدِّينِ وَتَكْمِيلًا لِلْعِرْفَانِ مِنْ تَكْرَارِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ مِرَارًا كَثِيرَةً كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَصَوِّفَةُ الْمُرْتَاضُونَ، وَمُقَلِّدَتُهُمُ الْمُرْتَزَقُونَ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ الْمُتَأَوِّلُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [6: 91] فَاسْمُ الْجَلَالَةِ هَنَا مُبْتَدَأٌ لِجُمْلَةٍ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ حُذِفَ خَبَرُهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلُهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [6: 91] إِلَخْ. وَالْمَعْنَى: قُلِ اللهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ، فَهُوَ لَيْسَ اسْمًا مُفْرَدًا يُكَرَّرُ تَعَبُّدًا.
وَمِثْلُهُ تَأَوُّلُهُمْ لِحَدِيثِ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللهُ اللهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَلَفْظُ الْجَلَالَةِ فِيهِ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْقَرِينَةِ، وَالْمَعْنَى- حَتَّى لَا يُقَالَ: اللهُ فَعَلَ كَذَا، اللهُ أَمَاتَ وَأَحْيَا مَثَلًا، لِذَهَابِ الْإِيمَانِ بِهِ تَعَالَى، وَالِاسْمُ الْمُفْرَدُ فِي ذِكْرِهِمْ يُكَرِّرُونَهُ بِالسُّكُونِ لَا يُقْصَدُ بِهِ مَعْنَى جُمْلَةٍ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ حَصْرُ التَّوَجُّهِ وَجَمْعُ الْهِمَّةِ بِمَا جَرَّبَهُ الرِّيَاضِيُّونَ، وَجَهِلَهُ الْمُقَلِّدُونَ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ: آيَاتُهُ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَالتَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ:

وَفِيهِ أَرْبَعَةُ شَوَاهِدَ عَلَى مَا قَبْلَهُ:
الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ آيَةِ تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ لِلْإِلَهِ الْوَاحِدِ اسْتِدْلَالًا عَلَيْهِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} 3 إِلَخْ. فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ رَبَّ النَّاسِ هُوَ الَّذِي يُعْطِيهِمْ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا الْمَادِّيَّةِ الْجَسَدِيَّةِ، وَمَا يُفَضِّلُ بِهِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا مِنَ الْفَضَائِلِ النَّفْسِيَّةِ مِنْ عِلْمٍ وَأَدَبٍ وَخُلُقٍ، وَأَنَّ الْوَسِيلَةَ لِهَذَا وَذَاكَ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَلِقَائِهِ فِي الْآخِرَةِ هِيَ اسْتِغْفَارُهُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ تَقْصِيرٍ فِي طَاعَتِهِ، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ عَقِبَ كُلِّ إِعْرَاضٍ عَنْ آيَاتِ هِدَايَتِهِ، لَيْسَ لِغَيْرِهِ تَأْثِيرٌ شَخْصِيٌّ فِي إِعْطَاءِ هَذَا وَلَا ذَاكَ بِتَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا بِشَفَاعَتِهِ عِنْدَهُ، فَيُدْعَى مَنْ دُونَهُ أَوْ يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مَعَهُ فِي طَلَبِهِ، وَمَنْ رَاقَبَ نَفْسَهُ وَحَاسَبَهَا فِي هَذَا شَاهَدَ تَأْثِيرَهُ فِي نَفْسِهِ، فَازْدَادَ إِيمَانًا بِرَبِّهِ، وَشَاهَدَهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُسْتَغْفِرِينَ التَّوَّابِينَ، وَضِدُّهُ فِي الْمُشْرِكِينَ وَالْمُصِرِّينَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ وَجَرَائِمِهِمْ، فَإِنَّهُ يَرَى أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ مَتَاعًا فِي هَمٍّ وَاصِبٍ، وَتَنْغِيصٍ دَائِبٍ؛ لِأَنَّ سَعَادَةَ الدُّنْيَا مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ، لَا مِنْ كَثْرَةِ الْأَعْرَاضِ فِي الْيَدِ.
وَلِهَذَا كَانَ رُسُلُ اللهِ الْأَوَّلُونَ يَأْمُرُونَ أَقْوَامَهُمْ بَعْدَ التَّوْحِيدِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ أَيْضًا كَمَا تَرَى فِي الْآيَةِ (52) مِنْ قِصَّةِ هُودٍ، وَقَدْ جَعَلَ جَزَاءَهُ إِرْسَالَ الْمَطَرِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ سَبَبُ سَعَةِ الرِّزْقِ، وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ لَهُمْ، إِذْ كَانَ هَذَانَ أَهَمَّ مَا يَطْلُبُهُ قَوْمُهُ مِنْ رَبِّهِمْ، وَيَتَوَسَّلُونَ إِلَى مَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ مِنْهُ بِآلِهَتِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ (61) مِنْ قِصَّةِ صَالِحٍ، وَقَدْ بُنِيَ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ فَضْلِهِ تَعَالَى عَلَى قَوْمِهِ بِسَعَةِ الرِّزْقِ وَاسْتِعْمَارِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَفِي مَعْنَاهَا الْآيَةُ (90) مِنْ قِصَّةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
الشَّاهِدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [6] الْآيَةَ. أَيْ: عَلَيْهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي خَلْقِ رِزْقِ هَوَامِّهَا وَأَنْعَامِهَا وَطَيْرِهَا وَوَحْشِهَا وَإِنْسِهَا وَجِنِّهَا أَحَدٌ مِنَ الْأَنْدَادِ الَّذِينَ اتَّخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي تَسْخِيرِ هَذَا الرِّزْقِ لَهَا، وَلَا فِي إِيصَالِهِ إِلَيْهَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا وَسَاطَةٍ أُخْرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهَا وَلَا مِنْ غَيْرِهَا مَنْ خَلْقِهِ غَيْرُ بَعْضِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الْمُكَلَّفِينَ.
الشَّاهِدُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ بَعْدَهَا وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَضْمُونِهَا: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} 7 الْآيَةَ، أَيْ: خَلَقَهُمَا وَمَا كَانَ يُوجَدُ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّفَعَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الْمَزْعُومِينَ، فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمُ الْآنَ وَفِي كُلِّ آنٍ، كَمَا كَانَ غَنِيًّا عَنْهُمْ عِنْدَ بَدْءِ التَّكْوِينِ، وَرَاجِعْ مَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ مِنَ الْمَاءِ، تَرَ فِيهِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ مَا يَرْبَأُ بِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ وَسِيطًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مِنْ هَذَا الْإِنْسَانِ الضَّعِيفِ كَمَا وَصَفَهُ خَالِقُهُ الْقَوِيُّ الْقَدِيرُ.
الشَّاهِدُ الرَّابِعُ: الْآيَاتُ (9 و10 و11) فِي بَيَانِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيمَا يُذِيقُهُمْ رَبُّهُمْ بِحِكْمَتِهِ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا دَارِ الْبَلَاءِ، وَأَصْنَافِهِمْ فِيهَا مِنْ يَائِسٍ كَفُورٍ، وَفَرِحٍ فَخُورٍ، وَصَبُورٍ شَكُورٍ، فَبِهَذَا التَّقْسِيمِ الْمَشْهُودِ الْمَخْبُورِ، تَعْرِفُ تَوْحِيدَ اللهِ تَعَالَى وَفَضْلَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ، وَجَدَارَتَهُمْ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، وَاسْتِحَالَةَ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ، أَوْ وَسِيطٌ فِي نِعَمِهِ وَتَكْرِيمِهِ لَهُمْ.